قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وما في ذلك من مواقف
قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة والناس في فرح وسرور بمقدمه صلى الله عليه وسلم لم نجد فرحاً وسروراً مثل ذلك . وفي هذا القدوم المبارك تظهر المواقف البطولية المبهجة نذكر منها ما يلي :
28ـ موقف بنات الأنصار :
في الحقيقة لقد كان لبنات الأنصار موقفاً مشرفاً حيث قمن بإنشاد هذه الأبيات وهم في فرح وسرور :
فالضيف الذي يحل على قوم ويفرحون به فيكون ذلك موقفاً مشرفاً لهم .
29ـ موقف الخدم والصبيان :
لقد كان للخدم والصبيان موقفاً عظيماً فقد خرجوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرفعون أصواتهم بالتكبير
والتبشير بمقدمه الشريف ، يقولون : الله أكبر ، جاء رسول الله ، جاء محمد ، والحبشة تسير أمامه تلعب بحرابها1 وهنا تظهر الفرحة والبهجة والسرور لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي اختارها الله لبناء الدولة الإسلامية فيها فشتان بين قوم أخرجوه وآذوه وبين قوم فرحوا لمقدمه .
30ـ موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه :
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري ، وقال المرء مع رحله ، فقال أبو أيوب : داري هذه وقد حططنا رحلك فيها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اذهب وهيىء لنا مقيلاً )) ، فذهب يهيىء ذلك ثم جاء فقال : يا نبي الله قد هيأت مقيلاً ، فقم على بركة الله تعالى . ونزل معه زيد بن حارثة ثم أجاب في الليل دعوة بني النجار أخوال جده عبد المطلب ، ولما أصبح عاد إلى منزل أبي أيوب . وكان أبو أيوب قد أعد المكان لرسول الله في الطابق السفلى من الدار وهو وزوجته بالطابق العلوي فآلم ذلك أبا أيوب . فقال : يا رسول الله إني أكره أن أكون فوقك وتكون تحتي ، فاظهر أنت فكن في العلوي وننزل نحن فنكون في السفلى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في أسفل البيت )) وبذلك طابت نفس أبي أيوب رضي الله عنه . ومن مواقفه أيضاً أنه كان يصنع الطعام لرسول الله فإذا أكل منه أخذ الطعام ليأكل فكان رضي الله عنه يسأل عن موضع أصابع رسول الله ليتتبع موضع أصابعه فيأكل منه رجاء البركة .
بهذا الموقف يتبين لنا أن أبا أيوب لم تطب نفسه أن يكون فوق رسول في السكن ولم تطب نفسه أن يأكل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى أتم بناء المسجد وبعض حجراته ثم انتقل إلى حجراته صلى الله عليه وسلم .
التآخي بين المهاجرين والأنصار وما كان في ذلك من مواقف :
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة عمل على بناء المجتمع الجديد ، فآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار آخى بينهم على الحق والمساواة .
لم يشهد التاريخ مثل الوؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، فلم يتم الأمر من خلال القمح والإرهاب ، ولا من خلال الإستيلاء على السلطة ، والتأميم للأموال المنقولة وغير المنقولة ، لقد كان تشريع المؤاخاة الذي تم بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم وبأقصى ما يملك المتآخون من رغبة واندفاع للتنفيذ . هي النموذج الحي للحكم على مستوى الدعاة في الأرض اليوم ، ومدى قدرتهم على أن تتمثل فبهم هذه الروح الأخوية .
لقد أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المؤاخاة بنفسه ، وقال : (( تآخوا في الله أخوين أخوين )) .
ولم يكن الأمر وعظاً عاماً ، وكلاماً جميلاً تُبح الأصوات فيه ، ولا ينتج عنه إلا الصداقة النادرة ، والمرتبطة بالمن والأذى إنما كانت خطوة عملية حية ، قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذها وتحديد التآخي المباشر بين كل أخ مهاجر وأخ أنصاري . وتتجلى في هذه المؤاخاة مواقف بطولية لم يزل يذكرها التاريخ مواقف رائعة فيها كل معاني التضحية والوفاء والكرم ، ونذكر من هذه المواقف ما يلي :
31ـ موقف عبد الرحمان بن عوف ، وسعد بن الربيع :
قدم عبد الرحمان بن عوف إلى المدينة مهاجراً ، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان أن يناصفه أهله ، وماله فقال له عبد الرحمان بن عوف : بارك الله لك في أهلك ، ومالك . دلني على السوق ، فذهب إلى السوق وباع واشترى حتى ربح كثيراً حتى أنه قال عن نفسه : ولقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضة .
لقد كان هذا مثلاً رائعاً وموفقاً بطولياً يذكره التاريخ ، لقد ارتفع سعد بن الربيع فوق المستوى ، فقد عرض خير أرضه ، وخير أهله ، وترك الاختيار لأخيه عبد الرحمان بن عوف وشهد له القرآن بذالك : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9})1 .
وهل يحتاجون إلى ثناء من الناس بعد هذه الشهادة من خالقهم . لقد بذل الأنصار كل شيء لإخوانهم المهاجرين حتى أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلاً من كثير ، لقد كفونا المؤونة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله . قال : (( لا! ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم ))2 .
وهكذا كانت المؤاخاة في ظروف الحاجة ، ولما وسع الله على المسلمين نسخ التوارث بها ، وأقر المودة والحب بينهم فقال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً {6})3.