المواقف البطولية عند دعوته صلى الله عليه و سلم لأقاربه
إن عودة الوحي كانت حامية حارة ، إذ أُمِرَ فيها الرسول بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك ، وما هم عليه من الكفر والفساد ، كما أمر بتعظيم الله عز وجل وتوحيده ، ثم بتطهير ثيابه من النجاسات لأنه أصبح يتلقى الوحي في كل حين ، فتعين له أن يكون على أتم الأحوال وأحسنها ، كما أُمِرَ بالإستمرار على هجر الأوثان ، والبعد عنها وعدم الالتفات إليها بحال من الأحوال كل هذا يظهر لنا جلياً في قول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7} )1 .
من هنا بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته بعرضها على من يرى فيه الاستعداد لقبولها 2، وذلك سراً وأثناء هذه الفترة حدثت مواقف بطولية نذكر منها ما يلي :
1ـموقف السيدة خديجة بنت خويلد :
لقد كان للسيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها موقفاً عظيماً حيث آمنت بالرسول صلى الله عليه و سلم و بما أنزل الله عليه من آيات . فكانت أول من آمن به ووقفت بجانبه وقفة المؤمن الذي لا تلين له قناة ، ولا يدخل القنوط إلى قلبه ، وقد كانت رضي الله عنها تخفف عنه آلامه و تفرج عنه كروبه و تهون عليه أمر الناس وكانت له وزير صدق يشكو إليها . و عندما قدم إليها من غار حراء مرتجفاً من رؤيته للوحي قامت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل و معها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقص عليه ما حدث ، فاهتز ورقة بن نوفل لما سمع ، و سرت روح الإيمان الصافي في جسده الهزيل الذي أرقده المرض وكبر السن ، وانتفض بكل ما أوتي من قوة وهو يردد. قدوس ..قدوس .. هذا الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك . فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( أو مخرجي هم )) ؟ قال له ورقة : نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، و إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
و هدأت نفس رسول الله بما سمع و انصرف مع زوجته إلى بيتهما و هكذا كانت الوقفة الأولى للسيدة خديجة رضي الله عنها ، مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و مع الدعمة في بدايتها و أول إشراقاتها تظهر مدى الإيمان الصادق عند هذه السيدة الصادقة الوفية لزوجها ، ومدى فراستها و كمال عقلها ، فقد كانت أعرف الناس بقدر زوجها . لهذا أرسل الله سبحانه وتعالى إليها (( السلام )) عن طريق الوحي (( جبريل )) عليه السلام و بشرها بالجنة .
عن أبي زرعة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : أتى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : (( هذه خديجة أتتك معها إناء فيه إدام و طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فأقرأ عليها السلام من ربها و مني و بشَّرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه و لا نصب ))1 .
2ـ موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
في الحقيقة إن الإمام علي كرَّم الله وجهه هو أول من آمن بالرسول صلى الله عليه و سلم من الصبيان ، و صلى معه و صدق بما جاءه من الله تعالى و هو ابن عشر سنين و كان مما أنعم الله عليه أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم2 . و كان إذا حضرت الصلاة خرج الرسول صلى الله عليه و سلم إلى شعاب مكة و خرج معه علي مستخفياً من أبيه ، و من جميع أعمامه و سائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا كلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً و هما يصليان ، فقال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ابن أخي ، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟ قال : (( أي عم ، هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين أبينا إبراهيم ، بعثني الله به رسولاً إلى العباد و أنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة و الدعوة إلى الهدى و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه )).
فقال أبو طالب : أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي و ما كانوا عليه ، و لكن و الله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت ؛ و ذكروا أنه قال لعلي : أي بني : ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ فقال : يا أبت آمنت بالله و برسول الله و صدقته بما جاء به ، و صليت معه لله و اتبعته فزعموا أنه قال : أما إنه لم يدعك إلا إلى خير ، فالزمه3 .
3ـ موقف أبي بكر الصدِّيق :
أبو بكر بن أبي قحافة ، أول ما سمع عن الإسلام أسلم ، وأعلن إسلامه ودعا إلى الله و إلى الرسول ، و كان أبو بكر رجلاً مؤلفاً لقومه ، محبباً سهلاً ، و كان أنسب قريش لقريش ، و أعلم قريش بها ، و بما كان فيها من خير و شر ، و كان تاجراً ذا خلق و معروف . فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يجلس إليه ، فأسلم على يديه عثمان بن عفان ؛ و الزبير بن العوام ؛ وعبد الرحمان بن عوف ؛ وسعد بن أبي وقاص؛ وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين استجابوا له ـ فأسلموا ، و صلوا ، وكان صلى الله عليه و سلم يقول : (( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة و نظر و تردد ، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ، ما عكم عنه حين ذكرته له ، وما تردد فيه ))4 .
4ـ موقف سعد بن أبي وقاص :
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب ، واستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين ، و هم يصلون ، فناكروهم و عابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم ؛ فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحى بعير فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام5.